السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
يحكى أن شيخا طاعنا في السن، كان على فراش الموت، وقد نادى على ولده البكر وخاصة أنه كان له من الابناء الخمسة ثلاث بنات. ناداه بصوت مترنح خافت مجمله سعال ان صح التعبير لذلك. كان ينتظر دقيقة وداعه من هذه الحياة وقد شبع منها ما شبع من الآهات و المتاعب وخاصة أن الشيخ إشتغل طول حياته حفارا ويتفنن في الحفر هكذا كان صيته بين العائلات في حيه!.
لقد حضر إبنه البكر يجري مهرولا، وجل إخوانه من وراءه و الدموع تنهمر من عيونهم غير مبالين لبعضهم البعض، كأنهم يحاولون إسكات بعضهم ولكن قد خارت قواهم أمام الأمر الواقع...
أجابه الإبن البكر ماذا يا أبي؟ خير إن شاء الله محتاج لشيء؟ أأجلب لك الماء لتشرب؟!!
الأب يصمت هنيهة ويرفع يده بعض الشيء على السرير ويحركها يمينا و شمالا بحركة خفيفة ثم يضعها، لا يا بني لا يا بني
الإبن البكر يقول ماذا هناك يا أبي وقد وطئ ليقبله من جبينه
الاب لإبنه إجلس يا ولدي إجلس.
الإبن البكر قد جلس وهذه المرة قد إغرورقت عيونه بالفعل بالدموع وبدأ يبكي حزينا ولكنه يحاول جاهدا إخفاء الأمر على ابيه من جهة و إخوته من جهة أخرى، ولكن هيهات للدموع أن تتوقف عن الهطول كانها شتاء وغيث ينهمر على أرض بوور.
يسعل ويطول في سعاله الاب محاولا التكلم وبعد عناء طويل إستطاع ان يتكلم
إبني أنت تعرف أن أيامي في هذه الدنيا صارت معدودة ولم اترك لكم شيئا تعينون به أنفسكم من بعدي...لا مال و لا جاه إلا فأسي و معولي...يسكت لحظة ويتنهد !
يا إبني انت أكبر إخوانك اوصيك بهم خيرا وخاصة أخواتك فلا تجرحهن وعاملهن بالمعروف كما كانت أمك رحمها الله تعاملكم!!!
وهنا بدأ كل من في الغرفة المظلمة يبكون ويصرخون والشيخ المسكين يحاول إسكاتهم ولكن هيهات ان إستطاع ...
"الأب كذلك يودع من يبقى لهم"
ويواصل الاب كلامه لقد تركت لك فأسي ومهنتي التي ورثتها أبا عن جد. فسكت الجميع يحاولون سماع ابيهم والإنصات إلى آخر كلماته التي هي شفاء لهم جميعا يسمعون و ينصتون يكذبون ربما ابيهم مرض وسيشفى و سيقوم من فراشه ولكن متى مرض آخر مرة؟؟؟ قد سالوا أنفسهم و طرحوا و إستفسروا!!!
ساد هدوء مفاجئ في الغرفة ومسك الشيخ يد ولده البكر وقد فتح عيونه و كان بريق كأنه شعاع توهجت القاعة به !
يا ولدي يا ولدي أوصيك قبل أن تحفر حفرة فكر !
ربما إن حفرتها وجدت شيئا ثمينا كنز وهبك الله به ولكن لا تنسى أن تجزئه وتوزعه!
وربما إن تحفر و لن تجد شيء وتذهب خالي الوطيس!
وربما تحفر وتخرج في لغم ينفجر عليك وتصير الحفرة هي قبرك!
هنا سكت و صمت ثم تلعثم وقال يشهد الله انني عملت بجهد والحمد لله رب العالمين وقد رفع يده اليمنى و الشاهد وقال اشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وسقطت يده على الفراش.
الكل من في الغرفة بدأ يبكي ويعوي إلا الإبن البكر متساءلا مندهشا لكلام ابيه المرحوم وخاصة أن أحس بثقل كبير وقد نهش عاتقه وحقيقة يقول أن لم يفهم شيء من كلامه....
مرت الايام وكان الإبن البكر يسال نفسه حيث كان لا ينام الليل وهو يفكر في معنى كلام ابيه ولكنه في الأخير إستسلم وفي أحد الايام وفي الصباح الباكر خرج من المنزل متوجها الى مكان تواجد الحفار ينتظرون عسى و على ان يناديهم شخص لكي يحفروا له !!!
وضع الفاس فوق كتفه وهم يترجل حتى إلتى بشيخ هو صديق ابيه وكان يرافقه في جل أعماله لأنه كان بحد ذاته حفارا.
فجاءته الفكرة وقال سأخبر هذا الشخص ربما يعرف معناه. فتشجع و أحس بقوة جديدة تخترق جسمه وألقى التحية على العجوز و هم الى تقبيله من الجبين !!!
يا عم يا عم كيف حالك ؟
العجوز بخير يا ولدي بخير وكما اراد خالقك ان نكون و مباشرة سأله كيف حالكم يا ولدي وحال إخوتك ؟
الشاب الحمد لله رب العالمين ونظر بعيدااا يتأمل كأنه يتذكر تلك الايام التي كان يرى فيها ابوه أمامه. فكر دقيقة وقال للعجوز
يا عم ممكن اسألك في شيء ؟!!
العجوز بدون تردد تفضل يا بني
الشاب يسال قد قال لي أبي في فراش موته كلام لم افهمه جيدا هي جمل ثلاثة
العجوز نعم يا بني وماهي ؟؟؟!!!
وقد أخبره الشاب بتلك الجمل بحروفها بدون أن يغير فيها شيء كأنه حفظها عن ظهر قلب .
فتوقف العجوز عن المشي وقد نظر الى الأرض ثم حاول الجلوس كأن قواه قد خرّت !!! فأمسكه الشاب مسعفا اياه وقد اوصله للأرض وجلس معه
يسأله ما باله وقد تغيرت حالته !
يا ولدي إن اباك قد أعطاك سرا من اسرار هذه الدنيا
يقول لك
"ربما إن حفرتها وجدت شيئا ثمينا كنز وهبك الله به ولكن لا تنسى أن تجزئه وتوزعه!"
معناها الحياة في هذه الدنيا قسمة وإن أغناك الله من فضله فلا تنسى الضعفاء و الفقراء
وكلامه
"وربما إن تحفر و لن تجد شيء وتذهب خالي الوطيس!"
هي من عاش الدنيا ولم يعمل لآخرته...
"وربما تحفر وتخرج في لغم ينفجر عليك وتصير الحفرة هي قبرك!"
وهي أن تغويك الدنيا بالملذات وأن تطغى بالشر و القوة وتنسى أنك في الآخر لك حفرة تأويك ...
لقد بكى الشاب حرقة لأبيه وهو يسمع هذه الكلمات التي خطت الجمل وقد توعد نفسه بالعمل كما وصاه ابوه رحمه الله.
إنتهى !